فصل: فصل في بيان المعجزة وكونها دليلًا على صدق الرسل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: إنهم إنما قطعوا ذلك لأنفسهم في حكمهم إن غلبوا.
أي قالوا: يجب لنا الأجر إن غلبنا.
وقرأ الباقون بالاستفهام على جهة الاستخبار.
استخبروا فرعون: هل يجعل لهم أجرًا إن غلبوا أولا؛ فلم يقطعوا على فرعون بذلك: إنما استخبروه هل يفعل ذلك؛ فقال لهم {نعم} لكم الأجر والقُرْب إن غلَبَتم.
تأدّبوا مع موسى عليه السلام فكان ذلك سبب إيمانهم.
و{أن} في موضع نصب عند الكسائي والفراء، على معنى إما أن تفعل الإلقاء.
ومثلهُ قول الشاعر:
قالوا الرُّكوبَ فقلنا تلك عادتنا

{قَالَ أَلْقَوْاْ} قال الفراء: في الكلام حذف.
والمعنى: قال لهم موسى إنكم لن تغلبوا ربكم ولن تُبطلوا آياته.
وهذا من معجز القرآن الذي لا يأتي مثله في كلام الناس، ولا يقدرون عليه.
يأتي اللفظ اليسير بجمع المعاني الكثيرة.
وقيل: هو تهديد.
أي ابتدئوا بالإلقاء، فسترون ما يحلّ بكم من الافتضاح؛ إذ لا يجوز على موسى أن يأمرهم بالسحر.
وقيل: أمرهم بذلك ليبيّن كذبهم وتمويههم.
{فَلَمَّا أَلْقُوْاْ} أي الحبال والعِصِيّ.
{سحروا أَعْيُنَ الناس} أي خَيّلوا لهم وقلبوها عن صحة إدراكها، بما يُتخيّل من التمويه الذي جرى مجرى الشعوذة وخفة اليد؛ كما تقدم في البقرة بيانه.
ومعنى {عَظِيمٍ} أي عندهم؛ لأنه كان كثيرًا وليس بعظيم على الحقيقة.
قال ابن زيد كان الاجتماع بالإسكندرية فبلغ ذَنَب الحيّة وراء البحيرة.
وقال غيره: وفتحت فَاهَا فجعلت تلقف أي تلتقم ما ألقوا من حبالهم وعِصيّهم.
وقيل: كان ما ألقوا حبالًا من أَدَم فيها زئبق فتحركت وقالوا هذه حيّات.
وقرأ حَفْص {تَلْقف} بإسكان اللام والتخفيف.
جعله مستقبل لَقِف يَلْقَف.
قال النحاس: ويجوز على هذه القراءة {تِلْقَف} لأنه من لَقِف.
وقرأ الباقون بالتشديد وفتح اللام، وجعلوه مستقبل تَلقّف؛ فهي تَتَلَقّف.
يقال: لقِفت الشيء وتلقفته إذا أخذته أو بَلَعته.
تَلْقَف وتَلْقَم وتَلْهَم بمعنىً واحد.
قال أبو حاتم: وبلغني في بعض القراءات {تَلَقّم} بالميم والتشديد.
قال الشاعر:
أنت عَصَا موسى التي لم تزلْ ** تَلْقَمُ ما يأْفِكُه الساحرُ

ويروى: تلقف.
{مَا يَأْفِكُونَ} أي ما يكذبون، لأنهم جاؤوا بحبال وجعلوا فيها زئبقًا حتى تحركت.
قوله تعالى: {فَوَقَعَ الحق} قال مجاهد: فظهر الحق.
{وانقلبوا صَاغِرِينَ} نصب على الحال.
والفعل منه صَغِر يَصْغَر صَغَرًا وصِغَرًا وصَغارًا.
أي انقلب قوم فرعونَ وفرعونُ معهم أذِلاّء مَقْهُورين مغلوبين.
فأما السحرة فقد آمنوا.
قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ} إنكار منه عليهم.
{إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا} أي جرت بينكم وبينه مُواطأة في هذا لتستولوا على مصر، أي كان هذا منكم في مدينة مصر قبل أن تبرزوا إلى هذه الصحراء {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} تهديد لهم.
قال ابن عباس: كان فرعون أوّلَ من صَلبَ، وقَطَع الأيدي والأرجل من خلافٍ، الرجل اليمنى واليد اليسرى، واليد اليمنى والرجل اليسرى، عن الحسن.
{وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا} قرأ الحسن بفتح القاف.
قال الأخفش هي لغة يقال: نَقِمت الأمر ونقمته أنكرته، أي لست تكره منا سوى أن آمنا بالله وهو الحق.
{لَمَّا جَاءَتْنَا} آياته وبيناته.
{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} الإفراغ الصَّبّ، أي اصببه علينا عند القطع والصلب.
{وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} فقيل: إن فرعون أخذ السحرة وقطعهم على شاطئ النهر، وإنه آمن بموسى عند إيمان السحرة ستمائة ألف. اهـ.

.قال الخازن:

قوله عز وجل: {ثم بعثنا من بعدهم} يعني ثم بعثنا من بعد الأنبياء الذين تقدم ذكرهم وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام {موسى بآياتنا} يعني بحججنا وأدلتنا الدالة على صدقه مثل اليد والعصا ونحو ذلك من الآيات التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام {إلى فرعون وملئه} قيل إن كل من ملك مصر كان يسمى فرعون في ذلك الزمان مثل ما كان يسمى ملك الفرس كسرى وملك الروم قيصر وملك الحبشة النجاشي وكان اسم فرعون الذي أرسل إليه موسى عليه الصلاة والسلام الوليد بن مصعب بن الريان وكان ملك القبط والملأ إشراف قومه وإنما خصوا بالذكر لأنه إذا آمن الأشراف آمن الأتباع {فظلموا بها} يعني: فجحدوا بها لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه وكانت هذه الآيات معجزات ظاهرة قاهرة فكفروا بها ووضعوا الكفر موضع الإيمان {فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} أي: انظر يا محمد بعين العقل والبصيرة كيف فعلنا بهم وكيف أهلكناهم {وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين} يعني أن موسى عليه الصلاة والسلام لما دخل على فرعون دعاه إلى الله تعالى وإلى الإيمان به وقال له إني رسول الله أي مرسل إليك وإلى قومك من رب العالمين يعني أن الله الذي خلق السموات والأرض وخلق الخلق وهو سيدهم ومالكهم هو الذي أرسلني إليك {حقيق} أي واجب {على أن لا أقول على الله إلا الحق} يعني إني رسول والرسول لا يقول على الله إلا الحق في وصفه وتنزيهه وتوحيده وأنه لا إله غيره {قد جئتكم ببينة من ربكم} يعني ببرهان على صدقي فيما أدعي من الرسالة والمراد ببينته معجزته وهي العصا واليد البيضاء ثم إن موسى عليه الصلاة والسلام لما فرغ من تبليغ رسالته رتب على ذلك الحكم فقال موسى {فأرسل معي بني إسرائيل} يعني خلِّ عنهم وأطلقه من أسرك وكان فرعون قد استعبد بني إسرائيل واستعملهم في الأعمال الشاقة مثل ضرب اللبن ونقل التراب ونحو ذلك من الأعمال الشاقة {قال إن كنت جئت بآية فأتِ بها إن كنت من لصادقين} يعني أن فرعون قال لموسى عليه الصلاة والسلام بعد تبليغ الرسالة: إن كنت جئت من عند من أرسلك ببينة تدل على صدقك فأتني بها وأحضرها عندي لتصح دعواك ويثبت صدقك فيما قلت {فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين} أي بيِّن، ولاثعبان الذكر من الحيات وصفه هنا بأنه ثعبان والثعبان من الحيات العظيم الضخم ووصفه في آية أخرى بأنه جان والجان الحية الصغيرة والجامع بين هذين الوصفين أنها كانت في عظم الجثة كالثعبان العظيم وفي خفة الحركة كالحية الصغيرة وهي الجان.
قال ابن عباس والسدي: إن موسى لما ألقي العصا صارت حية عظيمة صفراء شعراء فاغرة فاها بين لحييها ثمانون ذراعًا وارتفعت من الأرض بقدر ميل وقامت على ذنبها واضعة ليحها الأسفل في الأرض ولحيها الأعلى على سور القصر وتوجهت نحو فرعون فتأخذه فوثب فرعون عن سريره هاربًا وأحدث وقيل إنه أحدث في ذلك اليوم أربعمائة مرة، وقيل: إنها أخذت قبة فرعون بين أنيابها وحملت على الناس فانهزموا وصاحوا وقتل بعضهم بعضًا فمات منهم في ذلك اليوم خمسة وعشرون ألفًا ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى أنشدك بالذي أرسلك أن تأخذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل فعادت في يده عصا كما كانت وفي كون الثعبان مبينًا وجوه:
الأول: أنه تميز وتبين ذلك عما عملته السحرة من التمويه والتلبيس وبذلك تتميز معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تمويه السحرة وتخليهم.
الوجه الثاني: أنهم شاهدوا العصا انقلبت حية ولم يشتبه ذلك عليهم فذلك قال ثعبان مبين أي بيِّن.
الوجه الثالث: إن ذلك الثعبان لما كان معجزة لموسى عليه الصلاة والسلام كان من أعظم الآيات التي أبانت صدق قول موسى عليه الصلاة والسلام في أنه رسول من رب العالمين.
وقوله تعالى: {ونزع يده} النزع في اللغة عبارة عن إخراج الشيء عن مكانه والمعنى أنه أخرج يده من جيبه أو من تحت جناحه {فإذا هي بيضاء للناظرين} قال ابن عباس وغيره: أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء يعني من غير برص، وقيل: إن موسى عليه الصلاة والسلام أدخل يده تحت جيبه ثم نزعها منه وقيل أخرج يده من تحت إبطه فإذا هي بيضاء لها شعاع غلب نور الشمس وكان موسى عليه الصلاة والسلام آدم اللون ثم ردها إلى جيبه فأخرجها فإذا هي كما كانت ولما كان البياض المفرط عيبًا في الجسد وهو البرص قال الله تعالى في آية أخرى: {بيضاء من غير سوء} يعني من غير برص والمعنى فإذا هي بيضاء للنظارة ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضًا عجيبًا خارجًا عن العادة يُتعجب منه.

.فصل في بيان المعجزة وكونها دليلًا على صدق الرسل:

اعلم ان الله تبارك وتعالى كان قادرًا على خلق المعرفة والإيمان في قلوب عباده ابتداء من غير واسطة ولكن أرسل إليهم رسلًا تعرفهم معالم دينه وجميع تكليفاته وذلك الرسول واسطة بين الله عز وجل وبين عباده يبلغهم كلامه ويعرفهم أحكامه وجائز أن تكون تلك الواسطة من غير البشر كالملائكة من الأنبياء وجائز إلى أن تكون الواسطة من جنس البشر كالأنبياء مع أممهم ولا مانع لهذا من جهة العقل وإذا جاز هذا في دليل العقل وقد جاءت الرسل عليهم الصلاة والسلام بمعجزات دلت على صدقهم فوجب تصديقهم في جميع ما أتوا به لأن المعجز مع التهدي من النبي قائم مقام قول الله عز وجل صدق عبدي فأطيعوه واتبعوه ولأن معجزة النبي شاهد على صدقه فيما يقوله وسميت المعجزة معجزة لأن الخلق عجزوا عن الإتيان بمثلها وهي على ضربين: فضرب منها هو على نوع قدرة البشر ولكن عجزوا عنه فعجزهم عنه دلَّ على أنه من فعل الله ودل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم كتمنّي الموت في قوله: {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} فلما صرفوا عن تمنيه مع قدرتهم عليه علم أنه من عند الله ودل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم الضرب الثاني ما هو خارج عن قدرة البشر كإحياء الموتى وقلب العصا حية وإخراج ناقة من صخرة وكلام الشجر والجماد الحيوان ونبع الماء من بين الأصابع وغير ذلك من المعجزات التي عجز البشر عن مثلها فإذا أتى النبي بشيء من تلك المعجزات الخارقة للعادات علم أن ذلك من عند الله وأن الله عز وجل هو الذي أظهر ذلك المعجز على يد نبيه ليكون حجة له على صدقه فيما يخبر به عن الله عز وجل وقد ثبت بدليل العقل والبرهان القاطع أن الله تعالى قادر على خلق الأشياء وإبداعها من غير أصل سبق لها وإخراجها من العدم إلى الوجود وأنه قادر على قلب الأعيان وخوارق العادات والله تعالى أعلم.
قوله عز وجل: {قال الملأ من قوم فرعون إن هذا} يعني موسى {لَساحر عليم} يعني أنه ليأخذ بأعين الناس حتى يخيل لهم أن العصا صارت حية ويرى الشيء بخلاف ما هو عليه كما أراهم يده بيضاء وهو آدم اللون، وإنما قالوا ذلك لأن السحر كان هو الغالب في ذلك الزمان فلما أتى بما يعجز عنه غيره قالوا إن هذا لساحر عليم.
فإن قلت: قد أخبر الله تعالى في هذه السورة أن هذا الكلام من قوم الملأ لفرعون وقال في سورة الشعراء قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم فكيف الجمع بينهما.
قلت: لا يمتنع أن يكون قاله فرعون أولًا ثم إنهم قالوه بعد فأخبر الله تعالى عنهم هنا وأخبر عن فرعون في سورة الشعراء، وقيل: يحتمل أن فرعون قال هذا القول، ثم إن الملأ من قومه وم خاصته سمعوه منه ثم إنهم بلغوه إلى العامة فأخبر الله عز وجل هنا عن الملأ وأخبر هناك عن فرعون.